القائمة الرئيسية

الصفحات

  • القصة مستفادة من مجموعة الأحكام القضائية ١٤٣٤هـ  
  • رقم الصك ٣٣٢٨٠٥٨ بتاريخ ٣/٦/١٤٣٣   
  • المجلد الثالث عشر الصفحة ٥ وما بعدها.
  • الأسماء غير حقيقية، وتم العناية قدر الإمكان أن يكون السرد أدبيًا دون الإخلال بالفائدة القانونية. 

الخفجي، الثانية وخمس وأربعين دقيقة ظهرًا، رمضان.

يتطايرُ دخان السجائر في الغرفةِ الصغيرة المكتضة، يتغلغل في الأثاث، ويصافح الجدران بلطف وهو لا يعلمُ بالمصير الذي ينتظر هذا المكان إذ تتهادى معهُ الأفكار الموغلة بالوحشيةِ في رأسِ سليِّم الشابُ الباكستاني ..
بينما هو مضجعٌ على سريرهِ الحديدي ذي الدورين، يُقلب أفكاره والنيكوتين يتغلغلُ في قعرِ صدرهِ شُعبةً شُعبةً، يسردُ على نفسهِ ويُكرر مواجعه تِلك الاهاناتِ التي فتتْ بنفسيتهِ وجعلتهُ يُعاني المرارة مما صَبَ على قلبهِ الحقد والغل كيف لا و من أهانهُ و أوجعه نائمٌ في نفس الغرفة الصغيرة التي تجمعهُ بثمانِ عمالٍ من باكستان يعملون جميعًا لصالحِ شركةٍ في الخفجي وشاهدو بصمتٍ ما يتعرض له مِرارًا دون تدخلٍ أو استجابة.  لقد دلفوا إلى الغرفةِ دون شعورهِ، وناموا دون وعيه بينما هو على حالهِ يتذكرُ، ويقلبُ الجِراحاتَ، ويشاهدُ محمد الذي أهانه بأقذعِ العباراتِ هانئًا في نومهِ مُعافىً خاطرهُ مرتاح البالِ إذا هو يزداد غيضًا ويبلغ به الحنقُ ما لا يُحتمل و هو مع ذلك لا ينسى صورَ الاغتصاباتِ المُقذعةِ التي مارسها محمد عليه طيلهَ أشهرٍ وأشهر والناس نيام لا يعبئون بهِ أو يهتمون،كيف كانت حياتهُ في الباكستان قشيبةً هنيّة، ثمّ تقلب أحواله، وسائت أيامه، وأصبح أسفًا كمِدا، تتقلب عليه المواجع، وتتضخم لديه المشاعر،..
 حتى أخذ منه الغضب كل محملٍ  لينهض وشرارة تلمع من عينيهِ مستخرجًا سكينًا احتفظ بها في حقيبتهِ مقلبًا عينيه في النائمين فهذا هو وقت الإستراحة المناسب ليوجه إلى محمد طعنةٍ تلو أخرى حتى استيقظ قاطني الغرفةِ على وقع صراخِ محمد، الذي مع مواجهتهِ الألم الشديد انتفض قائمًا يمشي في الغرفةِ ودمهُ يراق في أماكن كثيرةٍ فيها، حاول فيها الفرار من سليم لكنه لم يقدر إلا أن زملاءه اجتمعوا بعد فواتِ الأوان بعد استيقاظهم على أثر الصراخ ممسكين بسليمٍ من الخلفِ يمنعونه من الاستمرار في جريتمه بعد أن وجهَ السكينَ على داخلٍ من الغرفةِ المجاورة حاول إيقافه لكنه لم يستطع ثمّ هرب متصلاً بالشرطةِ من السكنِ المجاور وهنا أخذ السكين أحد النزلاء مِن المجرم القاتل بعد أن طلبها مِنه وزملائهُ به ممسكين، فأعطاه السكين، ثم استطاع أن يلوذَ بالفرارِ وقد ملئت ملابسهُ بالدماء مُسرعًا على غيرِ هُدى حتى وصل إلى عمارة قيد البناء، مختبًا بها .
حضرت الإسعاف بعد تلقي البلاغ بسرعةٍ، وأخذت الجريح الذي توفي بعد وصولهِ للمستشفى، من أثرِ جراحاتهِ، إحدى عشرَ طعنةً قد  أهلكتهُ وتركت أثارًا غائرة في صدره . 
بينما محقق هيئة التحقيق والإدعاء العام في الغرفةِ الصغيرة يفتشها بعمقٍ، ويجد سكين القاتلِ التي أُخِذتْ مِنه فيحرزها ويتأمل.
ذهب المحقق للمكتبِ، مستعرضًا الشهودَ المذهولين من الحدثِ المتسارع، فما أقربَ وصولهم ثمّ نومهم و استيقاظهم على الصراخِ وكأن أيامًا مضت بسويعاتٍ قليلة…كلٌ يدلي بدولهِ فقال شاهد إني رأيتُ  الطاعن يغرسُ السكينَ في صدر محمد وذراعه، وقال آخر خرجتُ خائفًا من الحمام وقد كنت أستحم فسمعتُ الصراخ فأسرعت بارتداء ملابسي وإذا بمحمد غارق في دمائه وقال لي الزملاء في الغرفة أن سليم هَرب، ومنهم من قال أخذت السكين من القاتلِ ثم طرحتها أرضًا، ومنهم من حاول منع القاتل من الإستمرار بطعن المجني عنيه… فدونت أقوال الجميع فردًا فردًا . 
ثمّ جيء بالقاتل بعد القبض عليه عندما خرج من البنايةِ التي اختبأ بها، لشعورهِ بالحاجة لشرّب الماء، فشاهده رجال الأمنِ ووجدوه وفقًا للأوصاف التي عُممت عليه وهو مرتبكٌ وجل واقتادوه للتحقيقِ…فعترفَ أمام المحقق قائلاً: أقر بأني قتلتُ زميلي لأنه أهانني وتلفظ عليّ، وقد هرب باقي سكان الشقة لما رأوني أطعنُ محمد، ثمّ حاول منعي بعض السكان وأخذ السكين فهربت وأنا بكامل قواي العقلية. ثمّ بعد طلب المحقق تمثيل الجريمة نهض ممثلاً الجريمة فرفعت الأوراق للمحكمة الجزائية. مرت الأيام، وحان معياد استجلاء الحقيقة، أتي بالقاتل إلى المحكمة ليواجه طلب المدعي العام بتطبيق حد الغيلة عليه، لأنه هاجم المقتول في محلِ مأمنٍ. 
دخل القاتل لقاعة الحكم، ليواجه هيبة العدالة، رافعًا عينيه إلى المنصةِ التي يتوسطها قاضٍ وقور قد بانت في سحنتهِ استمساك بعرى الإيمانِ والعدل وإلى جانبيه قاضيانِ قد شع من عينيهما نظرٌ ثاقب قد تضلعَ نظرًا ومعرفة ، وفي الجانبِ مترجمٌ من باكستان عليه مسحةٌ من الطاعةِ على وجهه أثر السجود، وشابانِ كل واحدٍ منهما مستعدٌ للكتابة. 
...
فتلى القاضي الرئيس الدعوى المقدمة على القاتل من خلال المترجم والتي جاء فيها ايقاع حد الغيلة، فقال سليم: أنا مريض ومتعب وقد حضرت للتو من المستشفى، وفي جلسةٍ أخرى وردت للمحكمة إفادة أن المدعى عليه "سليم" منوم في المستشفى فرفعت الجلسة وفي الجلسة التي تليها حضر سليم وبعد أن سأله القاضي عن الدعوى التي قدمت من المدعي العام قال إني أعمل في شركة في محافظة الخفجي وأسكن في غرفة فيها ثمانية أشخاص ومن ضمنهم محمد الباكستاني وهو صديق لي وليس بيني وبينه إلا الخير ولا أذكر أي شيء بخصوص دعوى القتل وحيثُ أني مصاب بمرض عقلي وأراجع المستشفى وأستخدم العلاج وعندي ضعف في الذاكرة وتحصل لي فترات جنون لا أعلم ماذا أعمل فيها وأن الشرطة قبضوا علي وأخبروني أني متهم في قضية قتل ولا أعلم ماذا يقصدون ثم حصل بعد ذلك تحقيق معي ولا أذكر ما حصل معي في التحقيق.
أمرت الدائرة بعرضِ المتهم على مستشفى نفسي، ورفعت بذلك الجلسة واقتيد سليم إلى المستشفى حتى يتبين حالهُ، أطلع فيها الأطباءُ على تاريخه المرضي، ووجهوا له أسئلةً عن حالهِ ثمّ دونوا الإجابة ردًا على كتاب المحكمة.
 وفي الجلسة التالية وصل تقرير مطول من مستشفى الطب النفسي أفاد بأن سليم مصاب بالفصامِ مع ما يصاحبه من اعتقادات وأفكار خاطئة مما يؤثر على السلوك والحكم وعدم تقدير الأمور مما يجعل مسؤولية المهتم مسؤولية جزئية ويحول القتل العمد إلى قتل خطأ، فبعثت المحكمة للمستشفى مرّة أخرى يسألهم عن حالة المتهم عند اقترافهِ الجريمة هل هو في تمامٍ عقلي، فأجبت اللجنة الطبية بعد استعراض اجوبة سليم مع حالته المرضية أنه يعاني من التوهمات والتي لا أساس لها من الصحة حيث كان يعتقد أن المجني عليه يفعل به الفاحشة حال النوم، وأنه كان يستمع لأصواتٍ غريبة، وأن المجني عليه يسبه بالمقذعات.وسليم كان يعاني من المرض قبل وأثناء وبعد الجريمة وكانت للأعراض دورًا فاعلاً في حدوث الجريمة مما جعل اللجنة توصي بتخفيف المسؤولية الجنائية، وأن مرض الفصام مزمن ومستمر يتحسن مع العلاج وقابل للإنتكاسة ولا تستطيع اللجنة تحديد وقت اصابته لكنها تستطيع تحديد أنه مريض قبل الحادثة.
تأمل القاضي التقرير قبل الجلسة مرارًا، وعندما حانت الجلسة شرع فيها ، قائلاً : كما جاء في التقارير الطبية أن المدعي عليه كان يعاني من مرضه قبل وقوع الجريمة كما أوصت اللجنة الطبية تخفيف المسؤولية الجنائية عنه ولأن ما يطالب به المدعي العام إنما هو للحق العام ولأن القاتل والمقتول من جنسية واحدة ولم يراجع طوال المدة السابقة والتي بلغت نحو خمس سنين من يطالب بالحق الخاص ولئلا يتأخر نظر هذه القضية وأطرافها من غير السعوديين ومراعاة لحالة المدعي عليه الصحية وما ينتج عن طول سجنه من أضرار بالغه وفيه تأخير للحقوق الخاصة لا سيما وأن أولياء الدم أجانب ويقيمون خارج البلاد لكل ذلك ولأن المدعي عليه ناقص الأهلية قررنا ما يلي أولاً: درأنا حد الحرابة عن المدعى عليه لعدم كمال أهليته. ثانيًا: تعزيره لقاء ما نسب إليه للحق العام بسجنه مدة خمس سنوات وجلده أربعمائة وخمسين جلدة مفرقة على ست دفعات قدر كل دفعة خمسة وسبعون جلدة وبين الدفعة والتي تليها خمسة عشر يومًا، ثالثًا: تسليم المدعى عليه بعد انفاذ الحكم السابق لسلطات بلاده في باكستان لتمكين أولياء الدم من مخاصمته في الحق الخاص. وبعد ذلك عرض القاضي الحكم على سليم من بواسطة المترجم فتبسم، ثم بعرضه مرّة أخرى قال أوافق عليه، أما المدعي العام فاعترض ورفع الحكم للاستئناف فعاد مصدقًا.
...
مرت السنوات على سليم بعد تلطخه بدماء زميله لهلاوسٍ اعترتهُ، ولمرضٍ عقلي تسبب له بخسران صديق عزيز، كان يتذكر في كل مرّة يعود للسجن فيها غرفته الصغيرة، أحاديثهم العابرة عن كل شيء، ينسى أحيانًا، يتخيل قصصًا جديدة أحيانًا يضحك وأحيانًا يبكي حتى انتهت حكايته في هذه الديار ليواجهَ في ديارهِ قصةً أخرى من اعقابِ السجائر ترسمُ تفاصيلها. 


أعاد سردها على هذا الشكل      
 هيثم بن محمد البرغش
@SSU_75 



هل اعجبك الموضوع :

تعليقات